ملخص المقال
كان الشافعي نابغًا في حفظ القرآن، وحفظه للموطَّأ، ونابغًا في اللغة والفقه، والفروسية والرماية، لم تكن هذه هي مهارات الشافعي الوحيدة.
كان الشافعي نابغًا في حفظ القرآن الكريم مبكِّرًا، وحفظه للموطَّأ، وكذلك كان نابغًا في اللغة، وأيضًا الفقه، بالإضافة إلى الفروسية والرماية، لم تكن هذه هي مهارات الشافعي الوحيدة، بل أضاف إليها مواهب أخرى كثيرة.
قد يظنُّ ظانٌّ أنها لا تفيد في مجال التخصُّص وهو الفقه، ولكن هذا غير صحيح، فكثير من العلوم التي لا تبدو متصلة بالعلم الأساس، يكون لها فائدة ولو بصورة غير مباشرة، وقد استفدت كثيرًا من دراسة الطب في تدريسي للتاريخ، وقد أفرد لذلك محاضرة خاصة لأهمية هذا الأمر، ولكن دعونا في هذا المقال الحلقة نعلِّق على بعض المواهب الشافعية التي أثرت موهبته الفقهيَّة:
أولًا: علم الأنساب:
قال المزني: قدم علينا الشافعي وكان بمصر ابن هشام صاحب المغازي، وكان علامة أهل مصر في الغريب والشعر، وقال السّهيليُّ الأندلسيُّ (صاحب الروض الأنف، وهو علَّامة في السيرة، والفقه، والنحو): وأما عبد الملك بن هشام فمشهور بحمل العلم، متقدّم في علم النّسب والنحو. فقيل له: تأتى الشافعي، فأبى. فلما كان بعد ذلك قيل له: إنّه وإنّه، فأتاه فذاكره أنساب الرجال، فقال الشافعي رضي الله عنه، له بعد أن تذاكرا: دع عنك أنساب الرجال فإنها لا تذهب عنا وعنك، وخذ بنا في أنساب النساء. فلما أخذوا فيها بَقِيَ ابنُ هشام. وكان بعد ذلك يقول: ما ظننت أن الله خلق مثل هذا.
ثانيًا: الطب:
قال أبو حصين المصري: سمعت طبيبًا بمصر، قال: ورد الشافعي مصر وقعد إليَّ فما زال يذاكرني بالطب، حتى ظننت أن طبيب العراق ورد علينا، فقلت: أقرأ عليك شيئًا من كتب بقراط؟ فأشار إلى الجامع وقال: إن هؤلاء لا يتركونني لك، وللشافعي أقوال كثيرة في حضِّ المسلمين على دراسة الطبِّ، ومنها: العلم علمان؛ علم الأديان: الفقه، وعلم الأبدان: الطب، ومنها لا تسكن بلدة لا يكون فيها عالم يُنْبِئُكَ عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك، قَالَ حَرْمَلَةُ بن يحيى: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَلَهَّفُ عَلَى مَا ضَيَّعَ المُسْلِمُوْنَ مِنَ الطِّبِّ، وَيَقُوْلُ: ضَيَّعُوا ثُلُثَ العِلْمِ، وَوَكَلُوهُ إِلَى اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى.
ثالثًا: الفِراسة:
علم الفراسة هو علم تعرف بهِ أخلاق وطبائع الناس الباطنة من النظر إلى أحوالهم الظاهرة، قال الْحُمَيْدِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: "خَرَجْتُ إِلَى الْيَمَنِ فِي طَلَبِ كُتُبِ الْفِرَاسَةِ، حَتَّى كَتَبْتُهَا وَجَمَعْتُهَا، ثُمَّ لَمَّا حَانَ انْصِرَافِي، مَرَرْتُ عَلَى رَجُلٍ فِي طَرِيقِي وَهُوَ مُحْتَبٍ بِفِنَاءِ دَارِهِ [1]، أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئِ الْجَبْهَةِ، سِنَاطٍ[2]، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا النَّعْتُ أَخْبَثُ مَا يَكُونُ فِي الْفِرَاسَةِ فَأَنْزَلَنِي، فَرَأَيْتُ أَكْرَمَ رَجُلٍ، بَعَثَ إِلَيَّ بِعَشَاءٍ وَطِيبٍ، وَعَلَفٍ لِدَابَّتِي، وَفِرَاشٍ وَلِحَافٍ، فَجَعَلْتُ أَتَقَلَّبُ اللَّيْلَ أَجْمَعَ مَا أَصْنَعُ بِهَذِهِ الْكُتُبِ؟ إِذْ رَأَيْتُ هَذَا النَّعْتَ فِي هَذَا الرَّجُلِ، فَرَأَيْتُ أَكْرَمَ رَجُلٍ، فَقُلْتُ: أَرْمِي بِهَذِهِ الْكُتُبِ".
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، قُلْتُ لِلْغُلامِ: أَسْرِجْ، فَأَسْرَجَ، فَرَكِبْتُ وَمَرَرْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: إِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ وَمَرَرْتَ بِذِي طُوًى، فَسَلْ عَنْ مَنْزِلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ لِيَ الرَّجُلُ: أَمَولًى لأَبِيكَ أَنَا؟! قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي نِعْمَةٌ؟! فَقُلْتُ: لا. فَقَالَ: أَيْنَ مَا تَكَلَّفْتُ لَكَ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: اشْتَرَيْتُ لَكَ طَعَامًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَإِدَامًا بِكَذَا، وَعِطْرًا بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ، وَعَلَفًا لِدَابَّتِكَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَكِرَاءُ الْفِرَاشِ وَاللِّحَافِ دِرْهَمَانِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا غُلامُ أَعْطِهِ، فَهَلْ بَقِيَ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: كِرَاءُ الْمَنْزِلِ، فَإِنِّي وَسَّعْتُ عَلَيْكَ، وَضَيَّقْتُ عَلَى نَفْسِي، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَغَبَطْتُ نَفْسِي بِتِلْكَ الْكُتُبِ. فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ بَقِيَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: امْضِ، أَخْزَاكَ اللَّهُ، فَمَا رَأَيْتُ قَطُّ شَرًّا مِنْكَ.
فراسته مع تلاميذه:
قال الربيع بن سليمان المرادي: دخلنا على الشافعي عند وفاته أنا والبويطي والمزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم. قال: فنظر إلينا الشافعي ساعة فأطال ثم التفت إلينا فقال: أمّا أنت يا أبا يعقوب (البويطي)[3] فتموت في حديدك، وأما أنت يا مزني[4] فستكون لك بمصر هَنَاتٌ وهَنَات[5]، ولتدركن زمانًا تكون أقيس أهل ذلك الزمان، وأما أنت يا محمد فسترجع إلى مذهبك أبيك (المالكية)[6]، وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب[7]. قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة. قال الربيع: فكان كما قال.
قصة تجمع بين فراسته وعلمه بالطب:
قال المزني: «دخلت على الشافعي في بعض علله قلت له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت آكل رزقي وأنتظر أجلي: فقلت: ألا أُدْخِلُ عليك طبيباً؟ فقال: افعل. فأدخلت عليه طبيبًا نصرانيًّا، فجسَّ يده فحسَّ الشافعي بالعلَّة في يد الطبيب، فجعل الشافعي يقول:
جَاءَ الطَّبِيبُ يَجُسُّنِي فَجَسَسْتُهُ ... فَإِذَا الطَّبِيبُ لِمَا بِهِ مِنْ حَالِي
وَغَدَا يُعَالِجُنِي بِطُولِ سِقَامِهِ ... وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَعْمَشٌ كَحَّالِي
قال المزني: فما مضت الأيام والليالي حتى مات المُتَطَبِّبُ، فقيل للشافعي: قد مات المتطبَّب، فجعل يقول:
إِنَّ الطَّبِيبَ بِطِبِّهِ وَدَوَائِهِ ... لَا يَسْتَطِيعُ دِفَاعَ مَقْدُورِ القَضَا
مَا لِلطَّبِيبِ يَمُوتُ بِالدَّاءِ الَّذِي ... قَدْ كَانَ يُبْرِئِ مِثْلَهَ فِيمَا مَضَى
هَلَكَ المـُدَاوِي وَالمـُدَاوَى وَالَّذِي ... جَلَبَ الدَّوَاءَ وَبَاعَهُ وَمَنِ اشْتَرَى».
رابعًا: الشعر:
لم يكن به المبالغات، وكان إيمانيًّا تربويًّا (شعر ممتع) ومع ذلك لم يكن يُكثر منه قَالَ المُبَرَّدُ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيْفَةَ لَفُصَحَاءٌ، فَأَنْشَأَ يَقُوْلُ:
فلَوْلَا الشِّعْرُ بِالعُلَمَاءِ يُزْرِي … لكُنْتُ اليَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ
أمثلة:
وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ … فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أرْبَعًا لِوَفَاتِهِ
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي … فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي
وقال اعلم بأن العلم نور … ونور الله لا يؤتاه عاصي
نَعِيبُ زمانَنا والعيبُ فينا … وما لِزَمَانِنا عيبٌ سِوَانا
وقد نَهْجُوا الزمانَ بغير جُرْمٍ … ولو نَطَق الزمان به هَجانا
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ … وَطِب نَفسًا إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَّيَالي … فَما لِحَوادِثِ الدُّنيَا بَقاءُ
وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ المَنَايَا * فَلَا أَرْضٌ تَقِيهِ وَلَا سَمَاءُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا … فُرِجَتْ وكنْتُ أظنُّها لَا تُفْرَجُ
ختام: قال يونس بن عبد الأعلى: كان الشافعي إذا أخذ في العربية قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الشعر وإنشاده قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه قلت: هو بهذا أعلم[8].
[1] أي: يجلس القرفصاء، ويضم ساقيه إلى بطنه بيديه.
[2] سِنَاط: أي لا لحية له.
[3] أبو يعقوب البويطي: مات في أغلاله في فتنة خلق القرآن.
[4] أبو إبراهيم المـُزِني: كان من أجلاء العلماء والزهاد، وقد أراد ابن طولون أن يحضره إلى مجلسه فأبى تورُّعًا، فتهدَّده ابن طولون بهدم داره، فلم يقبل المزني، فأرسل إليه من يهدمها، فخرج إليه المزني وأبلغه أن هذا الحائط لجاره وليس له فلا يهدمه، فرجع الرجل بالكلمة إلى ابن طولون ففزع واستحيا، ولم يهدم الدار، وكان معظِّمًا لشأنه دومًا.
[5] أي: أمور عظام
[6] محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: عاد فعلًا إلى المالكية.
[7] الربيع بن سليمان: عاش بعد الشافعي قريبًا من سبعين سنة حتى صارت الرواحل تشد إليه من أقطار الأرض، لسماع كتب الشافعي.
[8] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك